فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوجه الرابع: أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ، ولا يتركون الكفر، بسبب الأمر بالمعروف، فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف، والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين، حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين.
الوجه الخامس: أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله، فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل، وكان ابن شبرمة يقول: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر.
الوجه السادس: لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك.
الوجه السابع: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة، فإن لم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم.
والوجه الثامن: أنه تعالى قال لرسوله {فَقَاتِلْ في سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ}: الجمهورُ على نَصْب {أنْفُسَكُمْ} وهو منصوب على الإغْرَاء بـ {عَلَيْكُمْ}؛ لأنَّ {عَلَيْكُمْ} هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ التقديرُ: الزمُوا أنْفُسَكُمْ، أي: هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها، فـ{عَلَيْكُمْ} هنا يرفعُ فاعلًا، تقديره: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوعٌ؛ نحو: «عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ»؛ كأنك قُلْتَ: الزَمُوا أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو: إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى عن العرب «عَلَى عَبْدِ الله» بجرِّ «عَبْدِ الله» وهو نصٌّ في المسألة، وذهب الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما، أعني «عَلَى» وما بعدها كهذه الآية، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه.
وقال أبو البقاء- بعد أن جعل «كُمْ» في موضع جرّ بـ «عَلَى» بخلافِ «رُوَيْدَكُمْ»-: «فإن الكاف هناك للخطَابِ، ولا موضع لها، فإن «رُوَيْد» قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ، وكذا قوله تعالى: {مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] «كُمْ» في محل جَرٍّ»، وفي هذه المسألة كلامٌ طويلٌ، صحيحُه أنَّ «رُوَيْد» تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه.
قال ابنُ الخطيب: قال النَّحْوِيُّونَ: «عَلَيْك، وعِنْدَك، ودُونَك» من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول، ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ، وينصِبُون بِهَا، فإذا قال: «عَلَيْك زيدًا» كأنه قال: خُذْ زيْدًا فقد عَلاَك، أي أشْرَفَ عليْك، وعِنْدَك زَيْدًا، أي: حَضَرَك فَخُذْهُ، و«دُونَك» أي: قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا.
وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ: {أنْفُسُكُمْ} رفعًا فيما حكاه عنه صاحبُ «الكشاف»، وهي مُشْكَلِةٌ، وتخريجُها على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، و{عَلَيْكُمْ} خبره مقدَّم عليه، والمعنى على الإغْراء أيضًا؛ فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة، ومنه قراءةُ بعضهم {نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء.
والثاني من الوجهين: أن تكون توكيدًا للضميرِ المُستترِ في {عَلَيْكُمْ}؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ.
قوله: {لا يَضُرُّكُمْ} قرأ الجمهور بضمِّ الراء مشددة، وقرأ الحسن البصريُّ: {لا يَضُرْكُمْ} بضم الضادِ وسكُونِ الراء، وقرأ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: {لا يَضِرْكُمْ} بكسر الضادِ وسكون الراءِ، وقرأ أبو حيوة: {لا يَضْرُرُكُمْ} بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية.
فأمَّا قراءةُ الجمهور: فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعلُ فيها مَجْزُومًا على جوابِ الأمر في {عَلَيْكُمْ}، وإنما ضُمَّتِ الراءُ إتباعًا لضمَّةِ الضَّادِ، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى، نُقِلَتْ للضَّادِ لأجلِ إدغامها في الراء بعدها، والأصْلُ: «لا يَضْرُرْكُمْ»، ويجوز أن يكون الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهي مستأنفٌ، والعملُ فيه ما تقدَّم؛ وينصُرُ جواز الجزمِ هنا على المعنيين المذكورينِ من الجواب والنهْيِ: قراءةُ الحسنِ والنخَعِيِّ؛ فإنهما نَصٌّ في الجزْمِ، ولكنهما محتملتان للجَزْمِ على الجوابِ أو النهي.
والوجه الثاني: أن يكون الفعلُ مرفوعًا، وليس جوابًا ولا نهيًا، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإخبار بذلك، وينصرُه قراءةُ أبي حَيْوَةَ المتقدِّمةُ.
وأمَّا قراءةُ الحسن: فَمِنْ «ضَارَهُ يَضُورُهُ» كصَانَهُ يَصُونُهُ، وأما قراءة النخَعِيِّ فمِنْ «ضَارَهُ يَضِيرُهُ» كَبَاعَهُ يبيعُهُ، والجزم فيهما على ما تقدَّم في قراءة العامة من الوجهين، وحكى أبو البقاء: {لا يَضُرَّكُمْ} بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيفِ، وهو واضح، والجزم على ما تقدَّم أيضًا من الوجهين، وهذه كلُّها لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران [الآية 144].
و{مَنْ ضَلَّ} فاعلٌ، و{إذَا} ظرفٌ محضٌ ناصبه {يَضُرُّكُمْ}، أي: لا يَضُرُّكُمُ الذي ضَلَّ وقتَ اهْتِدَائِكُمْ، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابُها محذوفٌ؛ لدلالةِ الكلام عليه، وقال أبو البقاء: «ويبعُدُ أن تكون ظرفًا لـ {ضَلَّ}؛ لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه»، قال شهاب الدين: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّنْ يضلُّ وقْتَ اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينتفي عنهم ضَرَرُ من ضلَّ في غيرِ وقْتِ اهتدائِهِمْ، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذكره. اهـ.

.تفسير الآية رقم (106):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما خاطب سبحانه أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة كالبيت الحرام والشهر الحرام، وأشار بآية البحيرة وما بعدها إلى أن أسلافهم لا وفّروا عليهم مالهم ولا نصحوا لهم في دينهم، وختم ذلك بقهره للعباد بالموت وكشف الأسرار يوم العرض بالحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ عقب ذلك بآية الوصية إرشادًا منه سبحانه إلى ما يكشف سريرة مَنْ خان فيها علمًا منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل وحثًا لهم على أن يفعلوا ما أمر سبحانه به لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال ويقتدي بهم فيما ختم به الآية من التقوى والسماع والبعد من الفسق والنزاع، فقال تعالى مناديًا لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه من الإقرار بالإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} أي أخبروا عن أنفسهم بذلك {شهادة بينكم} هو كناية عن التنازع والتشاجر لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك، وسبب نزول الآية قد ذكره المفسرون وذكره الشافعي في الأم فقال: أخبرني أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يماني، صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورِقَةٍ فمرض القرشي فجعل وصيته إلى الداريين فمات، وقبض الداريان المال فدفعاه إلى أولياء الميت، فأنكر القوم قلة المال فقالوا للداريين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى فوضع فيه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا، قالوا: فإنكما خنتمانا، فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} [المائدة: 106] فلما نزلت أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السماوات: ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، فلما حلفا خلي سبيلهما، ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت فأخذوا الداريين فقالا: اشتريناه منه في حياته، فكُذِّبا وكُلِّفا البينة فلم يقدرا عليها، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {فإن عثر}- يعني إلى آخرها ثم ذكر وقت الشهادة وسببها فقال: {إذا حضر} وقدم المفعول تهويلًا- كما ذكر في النساء- لأن الآية نزلت لحفظ ماله فكان أهم، فقال: {أحدكم الموت} أي أخذته أسبابه الموجبة لظنه.
ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمرًا متعارفًا، عرف فقال معلقًا بشهادة كما علق به {إذا} أو مبدلًا من {إذا} لأن الزمنين واحد: {حين الوصية} أي إن أوصى، ثم أخبر عن المبتدأ فقال: {اثنان} أي شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين {ذوا عدل منكم} أي من قبيلتكم العارفين بأحوالكم {أو آخران} أي ذوا عدل {من غيركم} أي إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي وعليه، وقيل: بل هما الوصيان أنفسهما احتياطًا بجعل الوصي اثنين، وقيل: آخران من غير أهل دينكم، وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر للضرورة لا في غيره ولا في غير السفر؛ ثم شرط هذه الشهادة بقوله: {إن أنتم ضربتم} أي بالأرجل {في الأرض} أي بالسفر، كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضربًا إلا فيه لأنه موضع الجد والاجتهاد {فأصابتكم} وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان بتخصيصه بقوله: {مصيبة الموت} أي أصابت الموصي المصيبةُ التي لا مفر منها ولا مندوحة عنها.
ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات، فكان في معرض السؤال عن الشهود: ماذا يفعل بهم؟ قال مستأنفًا: {تحبسونهما} أي تدعونهما إليكم وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة وأدائه؛ ولما كان المراد إقامة اليمين ولو في أيسر زمن، لا استغراق زمن البعد بالحبس، أدخل الجار فقال: {من بعد الصلاة} أي التي هي أعظم الصلوات؛ فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها وهي الوسطى وهي العصر، ثم ذكر الغرض من حبسهما فقال: {فيقسمان بالله} أي الملك الذي له تمام القدرة وكمال العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا، فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره، إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كان الوصيين فلا؛ ثم شرط لهذا الحلف شرطًا فقال اعتراضًا بين القسم والمقسم عليه: {إن ارتبتم} أي وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة؛ ثم ذكر المقسم عليه بقوله: {لا نشتري به} أي هذا الذي ذكرناه {ثمنًا} أي لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة، وليس قصدنا به إلا إقامة الحق {ولو كان} أي الوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له {ذا قربى} أي لنا، أي إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها {كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله} [النساء: 135]- الآية، لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط {ولا نكتم شهادة الله} أي هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به من حفظ الشهادة وتعظيمها، ولم نكتم شيئًا وقع به الإشهاد، ولا نكتم فيما يستقبل شيئًا نشهد به لأجل الملك الأعظم المطلع على السرائر كما هو مطلع على الظواهر؛ ثم علل ذلك بما لقنهم إياه ليكون آخر كلامهم، كل ذلك تغليظًا وتنبيهًا على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان، فقال تذكيرًا لهم وتحذيرًا من التغيير: {إنا إذًا} أي إذا فعلنا شيئًا من التبديل أو الكتم {لمن الآثمين}. اهـ.